إسبانيا تعيد كتابة التاريخ- الاعتراف بفلسطين، انتصار للحق والعدالة

المؤلف: د. محمد الروين10.28.2025
إسبانيا تعيد كتابة التاريخ- الاعتراف بفلسطين، انتصار للحق والعدالة

إن القرار الجريء الذي اتخذته إسبانيا بالاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية لم يكن مجرد إجراء روتيني، بل يمثل منعطفًا حاسمًا ومحطة بارزة في مسيرة الشعب الفلسطيني الطويلة نحو تحقيق حلمه المشروع في الاستقلال والسيادة على أرضه، وذلك بعد معاناة استمرت لأكثر من سبعة عقود ونيف منذ نكبة عام 1948، وبعد أكثر من قرن كامل من الاستعمار الصهيوني المدعوم من الانتداب البريطاني الذي مهد الطريق لاحتلال فلسطين.

وإذا كان لصدى عملية "طوفان الأقصى" المدوية، التي هزت أرجاء العالم وأثارت اهتمام الجميع بقوة، دورٌ محوري وأساسي في تحقيق جملة من الإنجازات الهامة للقضية الفلسطينية العادلة، تلك القضية التي عانت طويلًا من التهميش والنسيان، فإن الاعتراف الرسمي من قصر "مونكلوا" في مدريد – مقر الحكومة الإسبانية – بدولة فلسطين يمثل إحدى أبرز هذه المنجزات. وقد لعبت إسبانيا دورًا جوهريًا في هذا الاعتراف، لتصبح الدولة الأكثر تجاوبًا وتفاعلاً مع مطالب شعبها الذي أطلق حراكًا شعبيًا واسع النطاق في مختلف المدن الإسبانية يتميز بقوته وتأثيره على مستوى القارة الأوروبية.

لحظة تاريخية

كان تجاوب الحكومة الإسبانية مع هذا الحراك الشعبي سريعًا ومبكرًا. فبُعَيْدَ إعادة انتخابه رئيسًا للحكومة الإسبانية للمرة الثالثة، استغل بيدرو سانشيز، زعيم حزب العمال الاشتراكي ورأس الائتلاف الحاكم، هذه اللحظة التاريخية الفارقة، ليؤكد أمام وسائل الإعلام الدولية، من على الحدود المصرية الفلسطينية ذات الرمزية العميقة – وذلك يوم الجمعة الموافق 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، برفقة رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كرو، الذي تولت بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي خلفًا لإسبانيا – بعبارات واضحة وقاطعة على "ضرورة احترام القانون الدولي، ورفض استهداف المدنيين، والتأكيد على أنه لا يوجد حل عسكري للصراع، والحاجة الماسة إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار".

كما شدد سانشيز على "ضرورة أن يعترف المجتمع الدولي، وخاصة الدول الأوروبية، بدولة فلسطين، وإلا فإن إسبانيا ستكون الرائدة في هذه الخطوة". وقد جاءت هذه التصريحات خلال زيارة رسمية قام بها إلى فلسطين المحتلة، التقى خلالها مع بنيامين نتنياهو ومحمود عباس، حيث أعرب عن رفضه القاطع لعمليات القتل العشوائي للفلسطينيين التي يرتكبها قادة الاحتلال، داعيًا إلى ضرورة دعم عملية السلام في المنطقة وتطبيق حل الدولتين، الذي تدعمه عشرات القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.

وعلى رأس هذه القرارات يبرز القرار رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 1967، والذي تلته قرارات أخرى تدعو إلى إقرار السلام وانسحاب جيش الاحتلال من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية والجولان السوري، بالإضافة إلى احترام سيادة الدول واستقلالها السياسي ووحدة أراضيها.

وفي خطوة استباقية، نجح سانشيز في إقناع كل من النرويج وأيرلندا باتخاذ نفس المبادرة، على أمل انضمام مالطا وبلجيكا وسلوفينيا، وربما لوكسمبورغ لاحقًا. ليصبح يوم الثلاثاء الموافق 28 مايو/ أيار 2024 يومًا تاريخيًا بكل المقاييس، حيث شهد صدور مرسوم من المجلس الوزاري الإسباني يقضي بالاعتراف الرسمي بدولة فلسطين. وتتطلع إسبانيا الآن إلى تنظيم مؤتمر دولي للسلام، وهو تقليد اشتراكي أسسه عميد الاشتراكيين الإسبان فيليبي غونزاليس عام 1991 من خلال مؤتمر مدريد الشهير.

انعكاسات قانونية وسياسية هامة

يحمل الموقف الإسباني دلالات رمزية عميقة وانعكاسات قانونية وسياسية جمة فيما يتعلق بتحديد ملامح مستقبل الصراع العربي-الإسرائيلي. ومن شأن هذا الموقف أن يسهم في إحداث تصدعات في الهياكل المؤسسية للقانون الدولي بأبعاده وتجلياته كافة. لتؤكد إسبانيا عمليًا أنها صديقة للعرب وداعمة للقضايا الإنسانية التحررية.

إسبانيا تنتصر للقيم الإنسانية الرفيعة، وتضع الإنسان فوق جميع الاعتبارات السياسية والدينية والأيديولوجية. فإسبانيا دولة ذات ثقل وازن في الاتحاد الأوروبي، الذي سبق لبرلمانه أن صوّت بأغلبية ساحقة لصالح الاعتراف المبدئي بدولة فلسطين ودعم حل الدولتين في ديسمبر/ كانون الأول 2014، وهو ما قد يؤدي إلى تغيير في مواقف الدول الأوروبية التي لا تزال مترددة في الاعتراف بدولة فلسطين. فقبل هذا الاعتراف، لم يتجاوز عدد دول الاتحاد الأوروبي المعترفة بفلسطين ثماني دول فقط، وهي: بلغاريا وقبرص وسلوفاكيا والمجر وبولندا وجمهورية التشيك ورومانيا، وهي دول ورثت هذا الاعتراف من فترة انتمائها إلى المعسكر الاشتراكي في شرق أوروبا، بالإضافة إلى السويد التي اعترفت بدولة فلسطين عام 2014.

واليوم، وبعد الصحوة التي يشهدها الضمير العالمي، والتي لعبت فيها إسبانيا دورًا رائدًا، سيرتفع عدد الدول المعترفة بدولة فلسطين إلى 147 دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، بالإضافة إلى الفاتيكان الذي يحمل صفة مراقب في الهيئة الأممية.

إن موقف بيدرو سانشيز هذا سيضع الدول الأوروبية التي ترفع شعارات الدفاع عن الحرية واحترام حقوق الإنسان في موقف حرج، وخاصة دولًا مثل ألمانيا التي تتطلب علاقتها التاريخية مع الكيان المحتل الإسرائيلي مراجعة شاملة وتدقيقًا تاريخيًا غائبًا أو مُغيّبًا عمدًا. كما أن موقف إسبانيا من شأنه أن يشجع دولًا أخرى داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه على أن تحذو حذوها.

إدانة صريحة

إن الموقف الإسباني الحالي ليس موقفًا منعزلاً لا سابق له في تاريخ إسبانيا، بل له جذور عميقة في تاريخ بلد بلاس إنفانتي وأمريكو كاسترو وخوان غويتيسولو. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، حثّ الكورتيس (البرلمان الإسباني) السلطة التنفيذية، من خلال قرار غير ملزم، على الاعتراف بدولة فلسطين.

كما طالبت مجموعة من الأحزاب السياسية ذات التوجه اليساري التقدمي، مثل حزب سومار وحزب بوديموس وحزب اليسار الجمهوري الكتالاني وحزب أتشي بلدو الباسكي، الحكومة الإسبانية مرارًا وتكرارًا بقطع العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الكيان المحتل ووقف تصدير الأسلحة إليه.

ولقد تركت الإدانة الصريحة التي عبرت عنها وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية السابقة إيوني بيلارا، القيادية في حزب بوديموس – قبل مغادرتها منصبها الحكومي في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي – للأفعال التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، والتي وصفتها بأنها جرائم حرب وإبادة جماعية ممنهجة، صدمة كبيرة لدى قادة الاحتلال الإسرائيلي.

خاصة أنها اعتبرت أن إسرائيل تقوم بقصف المدنيين، وتترك مئات الآلاف منهم بدون ماء ولا كهرباء ولا طعام، مما يعد عقابًا جماعيًا ينتهك بشكل خطير القانون الدولي الإنساني، ويمكن اعتباره جريمة حرب مكتملة الأركان، متهمة الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية بتشجيعها على ممارسة سياسة التمييز والعنصرية والعدوان التي تنتهك حقوق الإنسان بصورة خطيرة.

ولعل تعيين السيدة سيرا عابد ريغو، وهي سياسية إسبانية من أصول فلسطينية، عن حزب سومار على رأس وزارة الشباب والطفولة – والتي ما زال والدها وإخوتها يقيمون في الضفة الغربية – يحمل إشارات ودلالات قوية على الأهمية الإستراتيجية التي توليها القيادة السياسية في إسبانيا للقضية الفلسطينية. وهي شخصية معروفة في المشهد السياسي والمدني الإسباني بدفاعها المستميت عن قضية شعبها، وتحاول الصحافة الإسرائيلية باستمرار تشويه صورتها من خلال إعادة نشر تغريداتها وتصريحاتها حول الصراع العربي – الصهيوني.

كتابة تاريخ جديد

وقبل أن تستفيق إسرائيل من صدمة الاعتراف الإسباني بدولة فلسطين، زادت نائبة رئيس الوزراء الإسباني، وزعيمة حزب سومار اليساري يولاندا دياز، الطين بلة، حين صرحت بأن تحرك إسبانيا للاعتراف بالدولة الفلسطينية "ما هو إلا البداية"، داعية إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي لإلغاء جميع الاتفاقيات المبرمة مع إسرائيل. واختتمت حديثها بعبارة: "فلسطين ستتحرر من النهر إلى البحر"، لتواجه حملة شعواء من قادة الاحتلال الإسرائيلي، الذين اتهموها بالتهمة الجاهزة: "معاداة السامية ومحاولة إبادة الشعب اليهودي"، مما اضطرها لإصدار توضيح لاحق قالت فيه: إنها تقصد حل الدولتين: "فلسطين وإسرائيل تتعايشان جنبًا إلى جنب من النهر إلى البحر".

إنه إذًا جدل محتدم بين الجانبين: الإسباني والإسرائيلي، كان آخر فصوله ما صرح به وزير الخارجية الإسرائيلي من أن إسبانيا، باعترافها هذا، تقوم بالتحريض على "تصفية الشعب اليهودي". مما دفع وزير الخارجية الإسباني ألباريس للرد عليه قائلاً: إن إسبانيا تقف إلى جانب الحق وتنتصر للقانون الدولي والشرعية الدولية. معتبرًا أن سحب السفير الإسرائيلي من مدريد والهجوم الشرس على إسبانيا لا مبرر له. وهو نفس الموقف الذي أكده سانشيز أمام الصحفيين على هامش اجتماع المجلس الوزاري في 28 مايو/أيار.

وما زالت الأمور تتفاعل، فإسبانيا بدأت في كتابة فصل جديد في تاريخ نضال الشعوب من أجل حقها في تقرير مصيرها، وهو الأمر الذي سيفتح الباب واسعًا أمام اعتراف مجموعة من مراكز القرار الرأسمالي الغربي التقليدية بدولة فلسطين. وفي هذا السياق، صرحت بريطانيا بأنها تفكر جديًا في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهي الدولة الاستعمارية التي تتحمل المسؤولية عن نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948. كما أوضحت فرنسا بأن التفكير في الاعتراف بدولة فلسطين لم يعد أمرًا مستبعدًا. وأعلنت أستراليا، التي تعتبر امتدادًا للمنظومة الاستيطانية الغربية في منطقة المحيط الهادئ، عن دراستها لإمكانية الاعتراف بدولة فلسطين.

لقد كان الأديب الإسباني الكبير خوان غويتيسولو – وفاءً للإرث الذي تركه الأدباء اليساريون الذين تصدوا للفاشية في إسبانيا – من أبرز الداعمين للقضية الفلسطينية، وكذلك فعلت عائلته المعروفة بإنجاب أدباء كبار. وانطلاقًا من هذا الموقف المبدئي، زار فلسطين إبان انتفاضة الحجارة عام 1988، وتعرض لمضايقات من الاحتلال الإسرائيلي بسبب مواقفه الداعمة لفلسطين والمنتقدة للاحتلال. ثم زارها مرة ثانية عام 2005، وشاهد حجم التراجع الذي أصاب القضية الفلسطينية بعد اتفاقيات أوسلو، ووصفها بأنها اتفاقيات استسلامية لا تليق بثورة شعب قدم تضحيات جسيمة من أجل تحرير بلاده من آخر استعمار أوروبي في العالم، مستحضرًا دومًا نضال الشعب الجزائري في مواجهة استعمار استيطاني شبيه بالاستعمار الصهيوني لفلسطين، وانتصاره عليه في نهاية المطاف.

ويبدو أن ضمير الثقافة الإسبانية الحي الذي انتصر لفلسطين وللشراكة مع العرب في التراث الأندلسي العريق، كما عبر عنه غويتيسولو، ما زال نابضًا في قلوب الشعب الإسباني، وهو ما يتجسد في دعمه الكبير للشعب الفلسطيني على الأصعدة كافة، وقد لا يكون الاعتراف الإسباني بدولة فلسطين نهاية المطاف في هذه المسيرة الطويلة من الدعم والتضامن.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة